خلال الأيام القليلة الماضية، هيمنت على الأنباء مسألة انتخاب بوريس جونسون كرئيس وزراء جديد لبريطانيا، والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكست)، وهو القضية السياسية التي أتت بجونسون إلى المنصب الذي طالما سعى لشغله. لكن هناك شيئاً أكبر وذي أهمية أطول أمداً يحدث أيضاً مع دخول جونسون مقر الحكومة البريطانية. فبريطانيا على وشك الشروع في عملية محورية لتحديد مكانتها في العالم. وأزمة بريكست والتوترات الدولية المتصاعدة بشأن إيران والخليج العربي، أوضحت حجم التحديات التي قد تواجه بريطانيا، وهي تحدد مكانتها في النظام العالمي الراهن.
وتنبهنا التطورات إلى أن بريطانيا نفسها، سياسياً وعسكرياً، لم تعد واحدة من قوى العالم الأكبر. فهي لم تستطع، مثلا، توفير الحماية البحرية لواحدة من سفنها التجارية في الخليج العربي. صحيح أنها مازالت تحتفظ بنفوذ أكبر من وزنها الحقيقي، لكن يتعلق أساساً بتحالفاتها الدولية.
قبل ثلاثة أعوام، اختتم السيد جونسون حملته السياسية من أجل إجراء استفتاء قومي على بريكست، باتهام المؤيدين للبقاء ضمن التكتل بأنهم «يقللون بشكل مؤسف من قيمة هذه البلاد وما تستطيع فعله». وكانت رسالته في ذلك الوقت هي: «لنجعل بريطانيا العظمى عظيمة من جديد» في ترديد لشعار دونالد ترامب، المرشح الرئاسي الأميركي في حينه.
ومازال جونسون يعتقد بوضوح أنه يستطيع تحقيق نجاح من بريكست. لكن أزمة إيران ألقت الضوء على حدود قوة بريطانيا في عالم اليوم وعلى الخيارات الصعبة التي يتعين عليها الانتقاء منها لصياغة هويتها بعد بريكست. وربما يكون من أبرز هذه الخيارات الصعبة، الطريقة التي تستطيع بها بريطانيا المواءمة في علاقاتها بين دول الاتحاد الأوروبي الرئيسية مثل ألمانيا وفرنسا في جانب وبين الولايات المتحدة في جانب آخر. فأنصار بريكست ينظرون إلى الولايات المتحدة باعتبارها شريكاً تجارياً محتملا يمكن التوسع معه لتعويض الضرر الاقتصادي الذي قد تعانيه بريطانيا بعد الخروج. وأزمة إيران ركزت الأضواء على هذا الخيار بشدة.
بريطانيا وفرنسا وألمانيا من الموقعين على الاتفاق النووي لعام 2015 الذي يقلص البرنامج النووي لإيران مقابل تخفيف العقوبات عنها. والرئيس ترامب انسحب من الاتفاق العام الماضي، لكن بريطانيا وشركاءها الأوروبيين يحاولون جاهدين إنقاذ الاتفاق. إلا أن تشديد العقوبات الأميركية على طهران وتحركات الإيرانيين ضد شحن النفط في الخليج، وتحركهم المبدئي نحو استئناف تخصيب اليورانيوم، ترك الاتفاق على حافة الانهيار.
وكانت قوات مشاة البحرية الملكية البريطانية قد استولت على ناقلة نفط إيرانية قبالة جبل طارق، وذلك لأن السفينة كانت تتجه إلى سوريا الخاضعة لعقوبات من الاتحاد الأوروبي. لكن تقارير ذكرت أن التحرك جاء بإيعاز من الولايات المتحدة. وردت إيران على التحرك باستيلاء الحرس الثوري الإيراني على ناقلة تحمل العلم البريطاني واحتجازها في ميناء بندر عباس. فبعد عقود من تقليص ميزانية البحرية البريطانية، لم يعد لدى المملكة المتحدة القدرة الكافية لحماية طرق شحنها، واقتصر رد الحكومة على التهديد بـ«عواقب خطيرة».
وحتى قبل الاستيلاء على السفينة، كانت لندن تتهيب من تأييد اقتراح لإدارة ترامب بتشكيل قوة حماية دولية تتزعمها الولايات المتحدة وتعتمد بالأساس على سفن أميركية. ومازالت بريطانيا وشركاؤها الأوروبيون يأملون إنقاذ الاتفاق النووي الإيراني، وفوق كل هذا، منع التصعيد العسكري مع إيران. وظلت حكومة ماي، في واحدة من آخر الإجراءات التي اتخذتها، تتحوط فيما يبدو لمراهناتها. فقد أعلن وزير الخارجية جيرمي هانت، منافس جونسون على المنصب، في الآونة الأخيرة أن بريطانيا يسعدها العمل في شراكة مع الأميركيين في الخليج العربي، لكنها تريد قوة حماية دولية بقيادة أوروبية، مؤكداً بصراحة دعم بريطانيا للاتفاق النووي مع إيران.
ومع إعلان جونسون تعهده بمغادرة الاتحاد الأوروبي بحلول نهاية أكتوبر، يتعين على بريطانيا ما بعد بريكست الاختيار بين تعزيز العلاقات مع شركاء الاتحاد الأوروبي الرئيسيين أو السعي لتعزيز العلاقات مع الولايات المتحدة.
نيد تيمكو*
*صحفي أميركي
ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»